عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((صَلاةُ الرَّجلِ في جمَاعَةٍ تَزيدُ عَلَى صَلاتهِ في سُوقِهِ وبيتهِ بضْعاً وعِشرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أنَّ أَحدَهُمْ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضوءَ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ لا يُرِيدُ إلاَّ الصَّلاةَ، لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَلاةُ : لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرجَةٌ، وَ حُطَّ عَنْهُ بها خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، فإِذا دَخَلَ المَسْجِدَ كَانَ في الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِي تَحبسُهُ، وَالمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ في مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيهِ، مَا لَم يُؤْذِ فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم "ينهزه" هو بفتح الياء والهاء وبالزاي: أي يخرجه وينهضه.
صلاة الجماعة والطريق إلى وحدة الأمة:
إن هذا الحديث النبوي يحث على صلاة الجماعة بصفتها مظهرا من مظاهر توحد المسلمين، واجتماع شملهم، ووحدة صفوفهم، وفي صلاة الجماعة بالمساجد يبدو المسلمون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وأسلوب هذا الحديث بمكوناته في ألفاظه وتراكيبه، والأدوات التي تربط بين الجمل، هذه المكونات كلها تشارك في توصيل المعنى المراد، وترغب المسلمين في ارتياد المساجد، وكثرة الخطا إليها.
ومن سمات الترغيب في الحديث الشريف: تكرار لفظ "الصلاة" ست مرات، وتكرار الفعل "صلى" مرتين: مرة في صيغة المضارع "يصلون"، ومرة في صيغة الماضي "صلى"، وهذا التكرار من شأنه أن يرغب المسلم في الصلاة، وأن يحببها إلى كل أجيال المسلمين استجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر"رواه أبو داود وصححه عدد من العلماء.
وكلمات الحديث الشريف تبوح بأسرار بلاغية، توحي بما في الحديث من بلاغة وفصاحة وإبراز للمعنى. ولنتأمل الجملة الأولى في هذا الحديث الشريف، ولنتعرف على أسرارها البلاغية واللغوية (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعاً وعشرين درجة)، فالصلاة في اللغة الدعاء، وهي تفيد معنى الخضوع والخشوع ولكنها تتجاوز المدلول اللغوي إلى المدلول "الاصطلاحي" الذي حدده الفقهاء لأركان الصلاة وواجباتها.
ولم يذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم مكان الصلاة التي تؤدى جماعة، إشارة إلى أن الصلاة في المسجد لها أفضليتها وثوابها. وتنبيها إلى أن الصلاة في المسجد أمر معروف لا يحتاج إلى التنبيه. وهذه السمة الأسلوبية يسميها البلاغيون "بلاغة الحذف"،
وفي رواية أخرى: صلاة "الجميع" والجميع ضد المتفرق.
ولفظ "السوق" يوحي بأن المسلم لا يترك الصلاة حتى وهو مشغول بالبيع والشراء، وقال العلماء "الصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق، لما ورد من كون الأسواق محلا للشياطين؛
ولفظ "البضع" له دلالة تعددية، فقيل: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من ثلاث إلى تسع، ولكن الروايات الأخرى تحدد المراد من "البضع" حيث تحدد بعض هذه الروايات بأن "صلاة الجميع تزيد على صلاته.. خمسا وعشرين درجة"، وفي رواية أخرى"سبعا وعشرين درجة".
ولفظ "الدرجة" لا يعني "العدد" ولكنه يفيد الكثرة والارتفاع والسمو والعلو، وقد ذكر ذلك صاحب "دليل الفالحين" رواية عن ابن الأثير حيث يقول: (إنما قال درجة لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع، وأن تك فوق هذه بكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق".
وهذه الجملة الأولى: تمثل قاعدة الحديث الكلية، وفيها تمام الفائدة، وفيها إشارة إلى أن المسلم لا يترك الصلاة في أي مكان: البيت أو السوق: أو أي مكان يتواجد فيه، ولكن الصلاة مع الجماعة في المسجد لها ثوابها العظيم ودرجاتها العلى